مقال طويل
مصيدة الفساد: غوص عميق في العالم السفلي للفساد
تحقيق للجزيرة في الفساد الذي يمارسه سماسرة السلطة والنخب التجارية العالمية لنهب ثروات الشعب الناميبي.
1 ديسمبر 2019 | 23 دقيقة قراءة
قابلت يوهانس ستيفانسون للمرة الأولى في يوم قارص وعاصف من شهر مايو / أيار في عاصمة آيسلاندا ريكجافيك. بينما تساقطت زخات المطر بتقطع خارج المكتب المؤقت الذي اجتمعنا فيه، كان يوهانس يعد نفسه، وكذا الصحفيون الخمسة الذين تجمعوا، لخوض معركة عمره.
كانت حماسته المتقدة تخفي وراءها شدة المزاعم التي كان على وشك التصريح بها ومفادها أنه، وبتوجيه من مسؤوليه في العمل، دفع ملايين الدولارات كرشاوي لشخصيات واصلة في السياسة الناميبية حتى يضمن لمستخدميه السابقين في شركة صيد الأسماء الآيسلندية "سامهيرجي" الحصول على مواقع لصيد السمك تدر عليهم أرباحاً سخية.
كان يقول من حين لآخر: "نحن في هذا إلى آخر الطريق." وذلك تعبيراً عن عزمه على رؤية زملائه وشركائه السابقين في العمل يواجهون العدالة على ما يزعم آنه كان ممارسة إجرامية واسعة النطاق للاحتيال على الشعب الناميبي والاستئثار بعائدات البلاد من الثروة الطبيعية.
توجد في مواجهة يوهانس تشكيلة عسيرة من أصحاب المصالح والنفوذ السياسي والمالي، وكل هؤلاء كما يزعم يوهانس متواطئون مع مافيا العالم السفلي في جنوب أفريقيا.
كاشف السر
تعرفت على يوهانس من خلال كريستين هرافنسون، رئيس تحرير مجموعة ويكيليكس الكاشفة للأسرار. قابلني في فيتزروفيا بلندن بعد خروجه مباشرة من سجن بيلمارش، حيث مازال يقبع زميله السابق جوليان أسانج.
أخبرني عن رحلة يوهانس عبر واحدة من أكبر شركات صيد الأسماك في آيسلاندا، بدءاً من عمله لزمن طويل كصياد على متن قوارب الصيد الآيسلندية التي تجوب البحار حول العالم مروراً بعمله مديراً لفروع تابعة لشركة سامهيرجي في المغرب وناميبيا وانتهاء بتركه العمل في الشركة تقززاً مما يعتبره ثقافة فساد تنخر المؤسسة.
حينما قرر ترك شركة سامهيرجي في عام 2016 أدرك يوهانس أهمية ما لديه من بيانات داخل حاسوبه اللابتوب، من رسائل إلكترونية ومذكرات، وشروح، وصور ومقاطع فيديو، تشكل مجتمعة ما أطلق عليه "ملفات السمك المتعفن"، عبارة عن أرشيف يحتوي على ما يزيد عن ثلاثين ألف وثيقة محفوظة لدى ويكيليكس، وتقدم الدليل الموثق الذي يدعم مزاعم يوهانس حول الفساد الذي ساهم هو نفسه في تسهيله أثناء وجوده على رأس عمله داخل سامهيرجي.
بينما راح كريستين يرمي شباكه في يم تلك الآلاف المؤلفة من الوثائق بدأ يسعى للحصول على شركاء محتملين داخل وسائل الإعلام. وكان الشركاء الطبيعيين ليوهانس وكريستين في وطنه آيسلاند "كفيكور"، السلسلة الاستقصائية لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون المملوكة للدولة "آر يو في" والمجلة الأسبوعية "ستاندين". ثم ما لبثت ويكيليكس أن توجهت نحو وحدة تحقيقات الجزيرة لتسليط الضوء على هذا التسريب الهام وإعطائه تغطية عالمية والتحول بالتحقيق نحو اتجاه جديد تماماً.
من آيسلاندا إلى ناميبيا
تقع آيسلاندا شمال المحيط الأطلسي بين غرينلاند وجزر الفارو، وتحاذي مباشرة الدائرة القطبية الشمالية، وهي جزيرة لا تربطها بالعالم الخارجي سوى علاقات ضئيلة. ونظراً لما تتصف به هذه الجزيرة من تضاريس صعبة ومناخ شديد البرودة والعواصف، فقد اعتمد جل سكانها كمصدر رزق لهم على رعي الأغنام. إلا أن مصير البلد تبدل بعيد الحرب العالمية الثانية، حينما بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو يقدرون القيمة الاستراتيجية للجزيرة والدور الذي يمكن أن تلعبه كحارس للممرات المائية الحيوية. وبذلك أصبح البلد الذي كان من قبل في عزلة عن العالم، والذي حصل على الاستقلال التام من الدنمارك في عام 1944، قطراً ذا اقتصاد عصري متكامل.
على بعد ما يقرب من عشرة آلاف كيلمومتر (أي ما يعادل 6200 ميل) إلى الجنوب، ما بعد خط الاستواء، تقع ناميبيا، تلك الأراضي الشاسعة على امتداد الساحل الجنوبي الغربي للقارة الأفريقية. لقد تلطخ التاريخ المعاصر لهذا البلد بالإرث الدموي للهيمنة الأجنبية، بدءاً بالمجازر التي ارتكبتها الإمبراطورية الألمانية في مطلع القرن العشرين إلى الفصل العنصري الذي فرضه نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا.
بعد نضال طويل من أجل الاستقلال خاضته منظمة شعب جنوب غرب أفريقيا (سوابو)، حصلت البلاد أخيراً على استقلالها من جنوب أفريقيا في عام 1990، ومنذ ذلك الحين وحزب سوابو يفوز بكل واحدة من الانتخابات العامة التي جرت في البلاد.
أرض ناميبيا غنية بالمصادر الطبيعية، من اليورانيوم المدفون في ترابها والمكتنز من قبل القوى النووية في العالم إلى الماس الذي يستخرج تنقيباً من قعر البحر. ومع ذلك فإن ما يقرب من خمس سكان ناميبيا يعيشون في فقطر مدقع وتعاني البلاد من معدل بطالة يصل إلى ثلاثة وثلاثين بالمائة.
عندما حصلت على استقلالها، نظرت الدولة الناميبية الشابة بشزر إلى الأقطار الأفريقية الأخرى الغنية بالمصادر الطبيعية والتي تحررت لتوها من الهيمنة الاستعمارية، حيث رأت أن الشركات الأجنبية قد حلت محل الإدارات الاستعمارية السافرة وأقامت شكلاً أخبث من الهيمنة الاستعمارية الجديدة، وراحت تنهب الثروات الوطنية وتتهرب من دفع حتى النزر اليسير من الضرائب.
سعت ناميبيا إلى تجنب الوقوع في مثل هذا المصير المشؤوم من خلال سن تشريع يضمن الملكية الوطنية للقطاعات التي تستغل المصادر الطبيعية للبلاد. وبناء على ذلك فقد شجعت سياسة "الناميبينة" داخل قطاع صيد الأسماك في البلاد الشركات الأجنبية على الدخول في مشاريع مشتركة مع الشركات الناميبية. وطالما أن واحداً وخمسين بالمائة من الشركة كانت مملوكة لمواطنين ناميبيين، ويفضل أن يكون هؤلاء ناميبيين من مجتمعات الأفريقيين السود الذين طالما تعرضوا للحرمان فيما مضى من عهود، فإن بإمكانها الاستفادة من امتيازات تكسبها حصصاً في قطاع صيد السمك.
كانت لدى الحكومة الناميبية أسبابها لتوفير مثل هذه الحماية لشعبها. فقد أظهرت دراسات حديثة أجراها الاتحاد الأفريقي أن أفريقيا تخسر ما لا يقل عن خمسين مليار دولار سنوياً بسبب التدفق المالي غير المشروع عبر شركات أجنبية تمارس التجارة والأعمال داخل القارة. وتقدر مؤسسة "التكامل المالي العالمي" أنه مقابل كل دولار يصل إلى العالم النامي على شكل مساعدات خارجية فإن عشر دولارات تغادر إلى الخارج، وجلها ناجم عن تملص الشركات متعددة الجنسيات من الالتزام بدفع ما عليها من ضرائب. ولعل في هذه الأرقام تذكير صارخ بالأسلوب الذي تعمل من خلاله الشركات الأجنبية على إلحاق خراب شامل بالاقتصاديات الأفريقية، ولا تترك من ورائها لشعوب القارة سوى الفتات.
’أسماك القرش‘ التي ترتع داخل الثروة السمكية لناميبيا
قابلت المدير التنفيذي للشبكة الأفريقية من أجل ضرائب عادلة ألفين موسيوما الذي شرح لي كيف غدت الاقتصاديات الأفريقية ضحية لما بات يعرف "استملاك الدولة" حيث "تتمكن زمرة صغيرة جداً من النخبة من تحديد ما هي القرارات التي ستتخذها الحكومة."
في سياق قطاع صيد السمك الناميبي، يطلق على أعضاء هذه الزمرة "أسماك القرش"، وهم نفس الشخصيات المتهمة في "ملفات السمك المتعفن"، وهم وزير الثروة السمكية والموارد البحرية بيرنهارد إيساو، ووزير العدل ساكي شانغالا، ورئيس شركة صيد السمك المملوكة للدولة "فيشكور" جيمز هاتويكوليبي وشريكهم المقرب منهم تامسون هاتويكوليبي، وهو صهر إيساو وابن عم جيمز هاتويكوليبي.
يتحدث يوهانس حول كيف استخدمت شركة سامهيرجي التي كان يعمل فيها سابقاً ما لديها من ارتباطات تفضيلية مع هؤلاء المتنفذين لتسهيل دخولها إلى قطاع صيد السمك في ناميبيا ومن ثم الاستئثار بنصيب الأسد فيه.
مع تعيين جيمز هاتويكوليبي رئيساً لشركة صيد السمك المملوكة للدولة "فيشكور" بدأت الشركة ببيع كميات ضخمة من الحصص بما هو أدنى من سعر السوق، وفي نفس الوقت تقريباً، قام المتنفذون بزعامة ساكي شانغالا بالدفع نحو إبرام اتفاق ثنائي مع أنغولا المجاورة، مستفيدين في ذلك من ثغرة قلما تستخدم في النظم الخاصة بقطاع صيد السمك الناميبي تسمح لشركة سامهيرجي بتجاوز عملية تقديم العروض بشكل تنافسي وبذلك تحصد نصيباً أكبر من محصول الأسماك الناميبية.
مقابل هذه المخصصات السخية من الحصص في قطاع صيد السمك، حصلت "أسماك القرش" ومن على شاكلتها داخل هذه الجوقة على ما يزيد عن عشرة ملايين دولار، والتي يزعم يوهانس أنها كانت رشاوي.
التحقيق السري
بوجود شهادة يوهانس القوية وما يدعمها من وفرة في الأدلة الموثقة، قررت الجزيرة القيام بمزيد من التحقيق في مزاعم الفساد داخل قطاع صيد السمك الناميبي.
كانت المهمة بسيطة، وتتمثل في رؤية ما إذا كانت الجزيرة قادرة على تكرار نجاحات سامهيرجي، بحيث تتمكن في الدخول إلى مواقع الثروة السمكية المربحة من خلال دفع رشاوي لأفراد على صلة جيدة بهذا القطاع.
خلال ثلاثة شهور فقط، تمكن مراسلنا المتخفي "جوني"، والذي تظاهر بأنه مستثمر صيني، من التفاوض على تنفيذ مشروع شراكة مع شركة صيد أسماك محلية اسمها أوموالو يديرها ساكي كاذيلا.
يتبين من تقارير صحيفة تعود إلى عام 2014 أن هيئة مكافحة الفساد في ناميبيا كانت تحقق في شركة كاذيلا حول مزاعم بأنها دفعت مبلغاً قدره 65 ألف دولار لأحد المدراء في وزارة الثروة السمكية. لا تعلم الجزيرة ما الغرض الذي من أجله تم دفع هذا المبلغ المزعوم، ولا حتى ما الذي انتهى إليه هذا التحقيق، ولكن ما هو معروف لديها أن كاذيلا أخبر مراسل الجزيرة المتخفي أن بإمكانه "أن يجد شخصاً في الوزارة يمكننا أن نضعه في شركتنا ... وذلك الشخص سيكون فقط من أجل النفوذ، لضمان أن تحصل أوموالو دوماً على حصة."
نجم عن الحاجة إلى تعمير جيوب المسؤولين الحكوميين من أجل الحصول على امتيازات يمكن من خلالها الحصول على حصص داخل قطاع صيد الأسماك وصول مستثمرنا الزائف إلى المدير التنفيذي لشركة فيشكور مايك نغيبونيا وإلى وزير الثروة السمكية بيرنهارد إيساو. مقابل جهوده في ضمان الحصول على الحصص، عرض على نغيبونيا ما نسبته 20 بالمائة من قيمة ما تم اقتراحه من مشروع مشترك بالإضافة إلى دفعة لمرة واحدة قدرها خمسمائة ألف دولار. وبنفس الشكل، ومن أجل ضمان رعاية وكفالة الوزير إيساو، عرض عليه مستثمرنا الصيني كهدية نسخة محدودة من هاتف آيفون ووعده بتبرع يبلغ 200 ألف دولار لحزبه الحاكم، سوابو، مساهمة في حملته أثناء الانتخابات العامة التي جرت في البلاد في السابع والعشرين من نوفمبر / تشرين الثاني.
وضمن الحديث عن نفسه كوكيل للوزير، قال كاذيلا إن إيساو "أعرب عن إعجابه الشديد" بمستثمرنا المتخفي، وأكد لنا أنه سيقوم "بكل ما قد نحتاج إليه منه لمساعدتنا."
رقصة الفساد على أنغام التانغو
بينما تعمل الجزيرة على فضح الفاسدين المتنفذين داخل قطاع صيد الأسماك الناميبي، فإن من الأهمية بمكان عدم السهو عن الطبيعة الثنائية للفساد.
وكما قال ألفين ماسيوما في تصريح للجزيرة: "كثيراً ما نركز أكثر على المستفيد من الفساد وليس على المورد للفساد." بمعنى آخر، في رقصة الفساد فإن "أداء التانغو يحتاج إلى اثنين."
ففي جانب لديك النخب السياسية المتنفذة التي استحوذت على الإجراءات الديمقراطية بينما في الجانب الآخر لديك نخب الأعمال المتنفذة التي بإمكانها، مقابل دفع الثمن المناسب، لي عنق الأنظمة والقوانين لتخدم مصالحها.
فيما يتعلق بأنشطة سامهيرجي، تظهر الوثائق المسربة كيف كان القائمون عليها يديرون عملياتهم في ناميبيا مع علمهم الكامل بالفساد القائم، حيث تشهد المذكرات المكتوبة باللغة الآيسلاندية لكبار المدراء في سامهيرجي على الدور القوي الذي لعبته ما تسمى "المجموعة الاستراتيجية" – والمشكلة من الوزير إيساو وشركاه – لضمان وضع تفضيلي لسامهيرجي داخل القطاع.
تم استخدام "شخصيات واجهة" بحيث يبدو الفرع الناميبي لشركة سامهيرجي، على الورق، مملوكاً بأغلبيته لمواطنين من ناميبيا، وبذلك تتحقق المعايير المطلوبة لسياسة "الناميبينة". ومع ذلك، وعلى الرغم من وفرة الأرباح التي وفرتها ناميبيا لشركة سامهيرجي، وصف أحد كبار المدراء في الشركة شعب ناميبيا بعبارة "الكسولون السعداء".
لئن لم تكن شركة سامهيرجي قد غزت ناميبيا مستخدمة في ذلك القوة، ولم تؤسس هناك إدارة استعمارية أو تجلب أعداداً كبير من الآيسلانديين ليستوطنوا في البلاد، إلا أنها وبطرق متعددة تعتبر شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد بسبب ممارساتها التجارية الفاسدة. ومن ذلك معاملتها السكان المحليين ومؤسسات البلاد المحلية بازدراء واعتبارها أن احترام القوانين والنظم المحلية أمر اختياري. من الملاحظ أن هيكل الشركة تم تصميمه بحيث تتمكن من التملص من دفع الضرائب ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، مستفيدة من معاهدات الضريبة المزدوجة بوجود ملاذات ضريبية مثل موريشوس وجزر المارشال وقبرص لتخفيض التزاماتها الضريبية إلى مستويات أدنى بكثير مما يترتب على المؤسسات الناميبية نفسها دفعه.
مافيا جنوب أفريقيا
استباقاً لكسره الصمت حول الفساد الذي يعترف بأنه ساهم في تسهيله، استعان يوهانس بالخدمات القانونية للسياسية الشهيرة والمحامية والناشطة في مكافحة الفساد إيفا جولي. أخبرتني هذه السيدة ذات الأصول النرويجية والمتجنسة فرنسياً، والتي كانت ذات مرة قد رشحت نفسها للرئاسة الفرنسية، عن المخاطر الجمة التي تواجه يوهانس من خلال كشفه لأسرار الشركة التي كان يوماً موظفاً فيها.
وقالت: "من الشائع أن يتلقى كاشفوا الأسرار تهديدات بالقتل. يمكن للأمر أن يصبح بالغ الخطورة، لأن الناس قد تخسر الكثير."
خلال الأشهر التي سبقت شهر يوليو / تموز من عام 2016، عندما غادر يوهانس ناميبيا إلى الأبد، قضى بعض الوقت في كيب تاون في جنوب أفريقيا، حيث تفاوض مع رجل أعمال محلي اسمه آليي باديرون، والذي أبدى اهتماماً بالدخول في شراكة تجارية مع سامهيرجي في قطاع صيد الأسماك في جنوب أفريقيا. بينما لم تفض هذه المفاوضات في النهاية إلى شيء، إلا أن تلك العلاقات كان لها تداعيات خطيرة على حياة يوهانس، حيث أدرك نتيجة لها تلك الروابط القائمة بين عالمي التجارة والمافيا في جنوب أفريقيا.
بعد مغادرة ناميبيا انتقل يوهانس إلى كيب تاون وأقام صداقة غير متوقعة مع جندي سابق من الكونغو اسمه كريستيان ييما أوكونغو، والذي غدا الآن يعمل في قطاع الأمن الخاص داخل جنوب أفريقيا. حينما كان يتفاوض على إنهاء اتفاقه مع سامهيرجي بدأ يوهانس يسمح إشاعات تدور حوله شخصياً ومنها أنه كان يتعاطى المخدرات ويدمن عليها وعلى الكحول.
حذره كريستيان، الذي يطلق عليه يوهانس صفة "الأخ"، من الخطر المحدق بحياته لمجرد أنه بدأ بتحرير نفسه من شبكة الفساد التي كان جزءاً منها في ناميبيا المجاورة.
لم يزل يوهانس وكريستيان حتى اليوم على علاقة وثيقة ببعضهما البعض ويتحدثان معاً بشكل يومي. وكلما سافر يوهانس إلى الخارج، يتصل كريستيان بمعارفه من أهل الكونغو الذين يعيشون في الخارج طالباً منهم تأمينه وحمايته.
وبحسب ما يقوله يوهانس، فإنه بمجرد أن أنهى وضعه الوظيفي في سامهيرجي في ديسمبر / كانون الأول من عام 2016، بدأ يعاني من أعراض صحية حادة، بما في ذلك نوبات صرع وإغماءات وارتعاش خارج عن السيطرة. ذهب إلى طبيب في كيب تاون فأخبره بأن تلك الأعراض لا تفسير لها، بينما أخبره فيما بعد طبيب في آيسلاندا بأن تلك الأعراض تشبه تلك التي تظهر على شخص تعرض للتسميم، على الرغم من أنه لم يتسن الحصول على تشخيص حاسم.
لا يخفي أصدقاء يوهانس، الذين شهدوا التدهور السريع في حالته الصحية، دهشتهم لتعافيه في نهاية المطاف، وهم الذين كانوا يجزمون بحتمية وفاته بسبب ما كان يعانيه من أعراض تهدد حياته.
شغلت يوهانس الشكوك بتعرضه للتسميم منذ أن غادر أفريقيا في مطلع عام 2017، إلا أن الدليل القطعي، ناهيك عن أي إثبات بهوية المتورطين، ظل بعيد المنال.
وصلت وحدة تحقيقات الجزيرة وثيقة مثيرة للفضول في مطلع شهر نوفمبر / تشرين الثاني، بعد أسبوعين من تواصلها مع الناس الذين ورد ذكرهم في القضية حتى يردوا على المزاعم الموجهة ضدهم، وقد يكون في هذه الوثيقة ما يسلط الضوء على القوى التي يجد يوهانس نفسها في مواجهتها.
بعث لنا تامسون هاتويكوليبي، الذي كان بمثابة قناة اتصال لشركة سامهيرجي في التواصل مع القطاع المحلي، بإفادة موقعة من قبل كريستيان، الذي اعتبره يوهانس أخاً له، ومختومة من قبل مركز الشرطة في كيب تاون. تشتمل الإفادة على مجموعة من المزاعم ضد يوهانس منها أنه مدمن على الكحول وعلى المخدرات وأن إدمانه على التردد على المومسات كبده ديناً لقوادين في كيب تاون قدره 75 ألف راند (أكثر من خمسة آلاف دولار أمريكي).
ينفي يوهانس بشدة هذه المزاعم ويقول إنه كان يتوقعها بالفعل.
بعد أيام قليلة من إرسال الجزيرة خطاباً إلى تامسون هاتويكوليبي تطلب منه الرد على المزاعم الموجهة ضده، يقول كريستيان إن عائلته تلقت تهديدات من قبل شخصيات ترتبط بالمافيا في كيب تاون. وقيل له إن الشرطة ستستلم أدلة تثبت تورطه شخصياً في نشاطات إجرامية. وإذ ذاك، وبسبب ما تعرض له من تهديد بممارسة العنف ضده بل وحبسه، تم ابتزاز كريستيان للتوقيع على الإفادة التي تتضمن مزاعم ملفقة ضد أعز أصدقائه.
أرفق بالإفادة التي تم التوقيع عليها تحت الإكراه شهادة يُدعى أنها صادرة عن "عيادة طبية" في إحدى ضواحي كيب تاون، واسمها كرايفونتين، تزعم بأن يوهانس تقدم للحصول على علاج وإعادة تأهيل من الإدمان على المخدرات في ديسمبر / كانون الأول من عام 2016 – في نفس الوقت الذي بلغت فيه الإشاعات حول إدمان يوهانس على المخدرات ذروتها وقبل أيام قليلة من تعرض حالته الصحية لتدهور مفاجئ وسريع.
إلا أن نظرة سريعة على الوثيقة تثير عدداً من الشبهات، منها أن العنوان المذكور للعيادة الطبية لا وجود له في أرض الواقع، بينما يغيب منها تماماً اسم الطبيب الذي أصدر الشهادة، وفي نفس الوقت رقم الهاتف المكتوب فيها لا يعمل. لم تلبث هذه الشكوك أن تعززت بشهادة من مجلس المهن الطبية في جنوب أفريقيا الذي لم يتمكن من العثور على ما يثبت وجود تلك العيادة الطبية.
لماذا قد يلجأ شخص ما إلى تزوير شهادة طبية يحاول من خلالها تصوير يوهانس في أبشع صورة ويرفق هذه الشهادة المزورة بإفادة موقعة تحت الإكراه والتهديد بالابتزاز الصادر عن أشخاص يرتبطون بالمافيا؟ وكيف وصلت مثل هذه الوثيقة المزورة والإفادة الموقعة تحت الإكراه إلى تامسون هاتويكوليبي فقط بعد أسابيع قليلة من تلقيه خطاباً يشتمل على الأدلة التي تثبت ضلوعه المزعوم في الإجرام؟ ولماذا يجد تامسون هاتويكوليبي من الضروري أن يرسل بتلك الشهادة المزورة إلى الجزيرة؟ كل هذه أسئلة مشروعة، إلا أنها جميعاً لا يمكن الإجابة عليها حتى اللحظة إلا من خلال التخمين والتكهن.
في تصريح للجزيرة، قالت كارين دوللي، التي قضت ست سنين في إعداد التقارير الصحفية حول المافيا في كيب تاون مركزة على الارتباطات القائمة بين الجريمة في العالم السفلي وأجهزة الشرطة، إن ثمة مزاعم بوجود ارتباط بين المافيا في كيب تاون وبعض ضباط الشرطة. وقالت: "ليس واضحاً مدى شيوع قيام شخصيات من العالم السفلي بابتزاز أشخاص آخرين لإكراههم على كتابة إفادات ضد خصوم لهم. إلا أن ثمة مزاعم يتم تداولها بهذا الشأن في كيب تاون."
إلا أن يوهانس من جهته مازال رابط الجأش غير عابئ بهذه المحاولات لإسكاته. تنوي محاميته جولي إحضاره للشهادة أمام لجنة الثروة السمكية داخل البرلمان الأوروبي، حيث يمكنه الحديث أمام اللجنة عن تجربته الخاصة فيما يمارسه السياسيون من فساد. في نفس الوقت تتحدث المحامية عن شجاعته في كشف المستور وإفشاء السر، وتقول: "إنه يعرف لماذا يقوم بذلك، ويعرف أنه إنما يقوم بذلك خدمة لعامة الناس في ناميبيا. فهو يعتقد أن مكافحة الفساد أمر بالغ الأهمية إذا ما أريد لأفريقيا أن تنهض وتتطور."
الرد على مزاعم الجزيرة
منذ أن تقدمت الجزيرة لأول مرة من الأطراف المتهمة بالأدلة التي تثبت جرائمها المزعومة، جاء الرد سريعاً وكاسحاً، فوزير الثروة السمكية بيرنهارد إيساو ووزير العدل كلاهما استقالا من منصبيهما في الوزارة، كما استقال جيمز هاتويكوليبي من منصبه كرئيس لشركة فيشكور، واستقال كذلك من منصبه كمدير إداري لمؤسسة "إنفيستيك لإدارة رأس المال".
ومع اقتراب موعد الانتخابات في ناميبيا أثارت قضية "السمك المتعفن" سخطاً عارماً في البلاد، وانطلقت احتجاجات في العاصمة ويندويك، توجه خلالها المئات من الأشخاص إلى هيئة مكافحة الفساد وطالبوا بإجراءات حاسمة ضد الفساد في البلاد.
وفي يوم الانتخابات في السابع والعشرين من ديسمبر / كانون الأول، ألقي القبض على معظم الناميبيين الذين وردت أسماؤهم في التحقيق ووجهت لهم تهم الفساد وغسيل الأموال والاحتيال.
جميع الناميبيين الذين وردت أسماؤهم في تحقيق الجزيرة ينفون ارتكاب أي جرائم.
في تصريح لصحيفة ذي ناميبيان، قال ساكي كاذيلا إنه علم منذ البداية أن مراسلينا المتخفين كانوا "رجال أعمال زائفين" زاعماً أنه انساق معهم عن قصد حتى يثبت ما لديه من شكوك بشأنهم. وأضاف إنه أبلغ سيسا ناماندجه، محامي الرئيس، بالأمر والذي زعم بدوره أنه أبلغ الشرطة.
وفي آيسلاندا، أفضت القضيحة إلى توقيف المدير التنفيذي لشركة سامهيرجي ثورستين مار بالدفينسون بانتظار إجراء تحقيق داخلي.
وفي الثاني عشر من نوفمبر / تشرين الثاني أصدرت شركة سامهيرجي بياناً قالت فيه إن "سامهيرجي سوف تتعاون مع السلطات المعنية التي قد تحقق في قطاع الثروة السمكية في ناميبيا. وإذا ما قدر لمثل هذا التحقيق أن يتم فإن سامهيرجي ليس لديها ما تخفيه."
ما بثته هيئة الإذاعة والتلفزيون الوطنية في آيسلاند (آر يو في) وما نشرته المجلة الأسبوعية "ستاندين" سبب صدمة عميقة للناس في هذه الدولة الصغيرة التي يبلغ تعداد سكانها 350 ألف نسمة، وذلك أن آيسلاندا، التي تعد من البلدان الأوروبية القليلة التي لا تاريخ لها في ممارسة الاستعمار أو شن الحروب، طالما تفاخرت بما تدعيه من براءة.
وقد عبرت عن ذلك هولدورا موغنسين، عضو البرلمان الآيسلندي عن حزب بايريت قائلة بكل وضوح: "لقد ماتت أسطورة براءة آيسلاندا."